تحالف الأقليات: خيانة للتاريخ وظلم للمستقبل!

تحالف الأقليات: خيانة للتاريخ وظلم للمستقبل!

علي فضّة

  • الأقليات بين الخوف والوعي: من الهامش إلى صناعة المعنى

تعريف موجز

الأقليات هي كتلة بشرية قليلة العدد تعيش داخل مجتمعات أكثرية. ولا يختزل هذا التعريف بالضرورة في بعد طائفي أو مذهبي فحسب؛ فهناك أيضًا أقليات ذات طابع فكري أو ثقافي مشترك مع أكثرية. بناءً على فلسفة الضدّ والمضدود المتأصلة في الفكر والطبيعة، نصل إلى معادلة بسيطة: أقليّة تقابلها أكثرية أو غالبية. هذه المعادلة كمية بظاهرها، لكن في منطقتنا لا تُشكّل الأقليات وحدة متجانسة؛ فهي تختلف في طبائعها وثقافاتها وأدبياتها وأخلاقياتها.

النشأة الحديثة

بعد سقوط الدولة العثمانية كسلطة مركزية، برزت فكرة “الأقليات” على نطاق أوسع، وفي المقابل ظهرت أفكار جمعية أنتجتها تلك الأقليات ذاتها. قد يختلف الباحثون حول الجذر الفكري أو المصلحي لهذه الظاهرة، لكن منطلقها كان في الغالب ثقافة جمعية تبحث عن هوية جديدة بعد زوال المظلّة السياسية القديمة.

كان لظهور فكرة القومية تيار جارف ضمّ أقليات وأكثريات (بالمفهوم الطائفي آنذاك) وشكّلوا أغلبيةً لا مجرد أكثرية، ولذلك سعت قوى داخلية وخارجية إلى تحطيم هذه الفكرة عبر استثمار ممارسات خاطئة من قِبَل قادة المشاريع الجامعة، فتم تحييدها تدريجيًا حتى صارت اليوم «أوراقًا صفراء من زمن غابر». مهمة تضعها القوى الكولونيالية في مستوى مواجهة تهديد مشاريعها التوسعية، وقد نجحت إلى حدّ ما لأسباب كثيرة لا يتسع المقال لشرحها.

ومع قيام إسرائيل، صار مفهوم “تحالف الأقليات” أكثر قابلية للتطبيق، بوصفه هدفًا استراتيجيًا قابلًا للتسويق بدعمٍ غربي.

«عقيدة المحيط» الإسرائيلية

صاغ ديفيد بن غوريون ما عرفت بـ«عقيدة المحيط» التي دعت إلى بناء تحالفات مع أقليات محيطة بإسرائيل — كموارنة لبنان، وأكراد العراق، ودروز سوريا — لمواجهة ما اعتُبر «التهديد العربي» من الدول السنية الكبرى. تجدر الإشارة إلى أن الأدبيات الإسرائيلية تُجمع أحيانًا على توصيف الجميع بـ«العرب».

طرح بن غوريون الفكرة في سياق «المصالح المشتركة»، وكان من سبقوه ومن تبعهم يعيشون نفس الهاجس؛ فقد اندمجت بعض الأقليات فكريًا مع الأكثرية عبر قواسم مشتركة. المفارقة أن المنتج الفعلي تاريخيًا لأفكار الجامعة — القومية واليسارية — جاء من منظّرين كانوا أنفسهم أقليات من مذاهب وديانات متعددة: يهودًا ومسيحيين وعلويين ودروزًا وشيعة… إلخ. أي أن الأقليات التاريخية أنتجت فكر الوحدة، بينما بعض التحالفات الحديثة حولت الأقليات إلى أدوات تفتيت.

الظرفية المرحلية التاريخية

الأصح أن نعرّف الأقليات بوصفها رمزًا للإنسانية المتألمة التي لم تثخنها جراح التاريخ، بل جعلتها منطلقًا لأفكار وأفعال عظيمة؛ وليست كيانات سياسية محتملة ماهيتها الهشاشة .
في هذا السياق، تصبح الأقليات ضمير التاريخ لا أدواته المُشَرذِمَة. وخضوعها للتحالفات السياسية الكبرى التي هي في حل من اي ضابط اخلاقي او رادع، يفرغها من جوهرها الأخلاقي، سيما بظنهم انه من القوة التحالف مع أقلية سرطانية لا تمت للإنسانية بصلة .

لكن السؤال المركزي اليوم لا يخص بن غوريون فحسب — صاحب الخلفية الصهيونية الكلاسيكية — بل يخص من أتى بعده من يمينيي التشدّد مثل نتنياهو وغيرهم…، الذين ينظرون إلى الأكثريات والأقليات على حدّ سواء كمجموعة واحدة «غوييم» — أي «غير بشر» أو «عبيد» في تصورٍ استعلائي ديني تلمودي.

أصحاب المشروع التوسعي هذا يجعلون الأقليات ضحايا، عبر اختلاق خطاب «الأكثرية الجهادية التكفيرية» كذريعة ديموغرافية لتبرير سياساتهم. وإذا أصبحت الحجة الديموغرافية المبرّر، فستُقدّم أثمان باهظة لجمع أقليات في غياب توازنات ومعايير رشيدة تؤهلهم ليجتمعوا كحدٍ ادنى، وسندخل في مأزق التخلص افتراضيًا من شيطان والارتماء في حضن شيطان آخر — مصيبة نابعة من ضيق الأفق والجهل بالتاريخ.

الأقليات كقيمة إنسانية منتجة

الأقليات التي لمست آلام وجراح الإنسانية لم تكن ترفًا؛ بل كانت منبعًا لتراث إنساني وفكري. هذه الأقليات ذات طبيعة فكرية منتجة ترى نفسها، بالاجماع الإنساني، أكثر من كونها أفرادًا محكومين بهواجس الابتلاع أو التنكيل. هذا واقع تاريخي: رغم ما فُعل بالأقليات من أفعال شنيعة، لم تتخلّ عن هويتها الإنسانية؛ بل قاومت وقدّمت للعالم نماذج إنتاجية وإبداعية. غالبًا ما رجعت من ظلام التاريخ وصنعت النور بمبدأ جمعي جذره فطرة إنسانية وعقل نير.

الحديث هنا ليس رومانسيًا، بل يختصر مشهدًا طويلًا من الصبر والوعي. كما يقول التراث الفكري: «الإنسان بوصلة الأرض ومحرك عجلة تاريخها»؛ والانتصار الحقيقي متعلق بمن يمتلك قوة داخلية حقيقية عارفة، لا بتسليح فقط أو تبعية لمستكبر .

نداء استيقاظ

استفيقوا قبل أن تصبحوا حطبًا في صيرورة التاريخ — غبارًا متناثرًا في هواء المستثمرين بكم. أولئك لن يزيدونكم إلا قهرًا؛ وعندما تُدركون أنكم حطّمتم هوياتكم وإرثكم التاريخي على مذبح الهروب إلى الجبن خوفا من المقاومة والارتماء بأحضان الشياطين، سيكون الأوان قد فات. الذئاب المتخفية في هيئة حمل قد تبدو داعمة، لكنها لا تراكم سوى أنكم حطب يابس لا يستحق حتى تكلفة إشعاله. هم أعلم منكم أن الطريق ينتهي بمحرقة — محرقة فكرية وسياسية وأخلاقية.

خيانة للتاريخ وظلم للمستقبل

تحالف الأقليات خيانة للتاريخ لأنه يمحو جذور الانتماء، وظلم للمستقبل لأنه يسلب الأقليات الفكرية دورها الإنساني الخلاق ويحوّلها إلى أدوات في مشاريع حروب دموية تنفذها قوى استعمارية ووظائف جيوسياسية. الخوف لا يُعالج بالارتماء في حضن الخارج، بل بالوعي والمشاركة وصناعة المعنى الحقيقي للثمن من اجل الفكرة. إن اختارت الأقليات الوعي، تصبح نورًا في وجه العتمة؛ وإن اختارت الخوف، كانت جسرًا يعبر عليه المستبدّون نحو مزيد من الخراب.
أخيرًا اسمعوا وعوا اذا ظننتم انكم بـ (تحالف الاقليات) هذا، ستجدون نجاعة وخلاصًا تأكدوا أنكم ستكونوا فعليًا ”كمن يصطاد القمر من الماء“.