الإنسان حيوان سياسي: إشكاليات معرفية في قراءة أرسطو.

الإنسان حيوان سياسي: إشكاليات معرفية في قراءة أرسطو.

[ علي فضة ]

إعادة قراءة المفهوم

في قلب الفلسفة السياسية الغربية، تقف عبارة واحدة كحجر الزاوية لفهم الطبيعة البشرية وعلاقتها بالمجتمع: “الإنسان حيوان سياسي بطبعه” هذه المقولة التي صاغها الفيلسوف اليوناني أرسطو (384-322 ق.م) في كتابه “السياسة”، تحتاج إلى قراءة نقدية معاصرة تتجاوز الفهم السطحي الذي ساد لقرون، وتكشف عن الإشكاليات المعرفية التي تطرحها – سواء في أصلها التاريخي أو في تحولاتها عبر الزمن.

إشكالية المصطلح: “حيوان” بين اللغة والمعنى

ما وراء الترجمة

عندما نقرأ كلمة “حيوان” اليوم، يتبادر إلى الذهن التمييز البيولوجي بين الإنسان والكائنات الأخرى. لكن المصطلح اليوناني الأصلي * يحمل دلالة مختلفة تماماً – فهو يشير إلى “الكائن الحي” بمعناه الأوسع، إلى الوجود الذي يملك * (روح/نفس/حياة). أرسطو لم يكن يضع الإنسان في مرتبة الحيوانات بالمعنى التحقيري، بل كان يصف طبيعته كـ”كائن حي له خصائص معينة”.

الإنسان: مادة خام أم طبيعة محددة؟

هنا تكمن الإشكالية المعرفية الأولى والأعمق: أرسطو يطرح أن الإنسان يولد كـ”مادة خام” – ليس خيّرًا بالفطرة كما يقول أفلاطون، ولا شريرًا كما سيقول هوبز لاحقًا. الإنسان ذو مزجة مزدوجة، يحمل إمكانية الخير والشر معًا. هذا الموقف الأرسطي يمثل تناقضًا مع الفضيلة الأفلاطونية ويؤسس لفهم أكثر واقعية للطبيعة البشرية.

الإنسان، بهذا المعنى، هو كائن بالقوة وليس بالفعل ( يحمل في ذاته إمكانية أن يصير فاضلاً أو رذيلاً، عاقلاً أو منفعلاً، سياسيًا أو متوحشًا. هذا الانفتاح الوجودي هو ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية التي تولد بطبائع محددة وغرائز ثابتة.

المجتمع كفضاء للتربية: من القوة إلى الفعل

الفضيلة كصناعة اجتماعية

إذا كان الإنسان مادة خامًا، فالمجتمع السياسي هو الفضاء الذي تُصنع فيه الفضيلة. عندما يقول أرسطو إن الإنسان حيوان سياسي، فهو لا يصف فقط ميلاً طبيعيًا للاجتماع، بل يؤكد على ضرورة المجتمع السياسي لتحويل الإمكانية الإنسانية إلى فعلية. المجتمع ليس مجرد ضرورة للبقاء، بل هو الشرط الأساسي للصيرورة الإنسانية نفسها.

الفضيلة في الفلسفة الأرسطية، لا تُكتسب بالمعرفة النظرية وحدها (كما يقول سقراط)، ولا هي منحة الاهية، بل هي عادة تُكتسب بالممارسة المتكررة داخل إطار اجتماعي. نصبح شجعاناً بممارسة الشجاعة، عادلين بممارسة العدل، وسياسيين بالمشاركة في الشأن العام. المجتمع السياسي، بقوانينه ومؤسساته وتقاليده، هو البوتقة التي تُشكل فيها الأخلاق الفردية.

التربية كوظيفة سياسية جوهرية

من هنا يأتي التشديد الأرسطي على التربية كمسؤولية أساسية للدولة. التربية ليست مجرد نقل للمعارف، بل هي تشكيل لطبائع المواطنين وغرس للفضائل. الدولة التي تهمل تربية مواطنيها تخون وظيفتها الأساسية – فهي تترك الإنسان في حالته الخام، معرضاً للانزلاق نحو الرذيلة أو البقاء في البربرية.

هذا الفهم يضع السياسة في قلب العملية الأخلاقية والإنسانية. السياسة ليست مجرد إدارة للصراعات أو تنظيم للمصالح، بل هي المشروع الحضاري الأساسي: تحويل الإنسان من إمكانية إلى واقع، من مادة خام إلى كائن فاضل، من حيوان إلى إنسان بالمعنى الكامل.

الانحراف التاريخي: من أرسطو إلى ميكيافيلي

تحييد الأوليغارشية للمشروع الأرسطي

الإشكالية الكبرى في تاريخ الفكر السياسي الغربي تكمن في كيفية تحييد المشروع الأرسطي الجوهري. النخب الأوليغارشية، عبر التاريخ، وجدت في فلسفة أرسطو خطراً على سلطتها – فإذا كان دور الدولة هو تشكيل مواطنين فاضلين ومشاركين، وإذا كانت الفضيلة شرطاً للحكم، فإن احتكار السلطة من قبل نخبة تفقد شرعيته.

لذلك، كان لا بد من إعادة تعريف السياسة بطريقة تفصلها عن الأخلاق، وتحولها من مشروع تربوي حضاري إلى مجرد تقنية للسيطرة. هنا يأتي دور ميكيافيلي (1469-1527) كنقطة تحول حاسمة.

الميكيافيلية: القطيعة مع الأخلاق السياسية

في كتابه “الأمير” (1513)، يؤسس ميكيافيلي لمدرسة سياسية جديدة تقوم على فصل السياسة عن الأخلاق. السياسة، بالنسبة لميكيافيلي، هي فن السيطرة والحفاظ على السلطة، وليست مشروعاً أخلاقياً. الأمير الناجح ليس من يحكم بالفضيلة، بل من يعرف متى يكون ثعلبًا ومتى يكون أسدًا – متى يكذب، متى يخون، متى يقتل، طالما أن ذلك يخدم مصلحة بقائه في السلطة.

هذا التحول لم يكن مجرد اختلاف فكري، بل كان تعبيرًا عن مصلحة طبقية. بفصل السياسة عن الأخلاق، يصبح من الممكن أن يحكم من لا يملك الفضيلة، وأن تُمارس السلطة دون اعتبار للصالح العام. الخير، الذي كان في قلب المشروع الأرسطي، يصبح “عبئًا على السياسة” – عائقًا أمام الكفاءة، ورفاهية لا يمكن تحملها في عالم قائم على الصراع.

من الميكيافيلية إلى الواقعية السياسية المعاصرة

المدرسة الميكيافيلية لم تتوقف عند القرن السادس عشر، بل تطورت لتصبح “الواقعية السياسية” التي تهيمن على الفكر السياسي الحديث. من هوبز إلى كارل شميت، من الليبرالية إلى النيوليبرالية، نجد الخيط المشترك: السياسة هي إدارة للمصالح والصراعات، وليست مشروعاً للفضيلة.

الليبرالية، على وجه الخصوص، قدمت نموذجاً سياسياً يقوم على حياد الدولة أخلاقياً. الدولة الليبرالية لا تفرض تصورًا معينًا عن الحياة الخيرة، بل تؤمن الإطار القانوني الذي يتيح للأفراد أن يسعوا لسعادتهم كما يفهمونها. هذا النموذج يبدو تحرريًا في الظاهر، لكنه في الواقع يترك المجتمع بلا مشروع أخلاقي مشترك، ويُسلم الأفراد لقوى السوق والإعلام والأيديولوجيا الجشعة المهيمنة.

النيوليبرالية تذهب أبعد من ذلك: فهي تحول كل شيء إلى سلعة تحت مبدأ “التسليع”، بما في ذلك السياسة نفسها. المواطن يصبح مستهلكًا، والسياسة تصبح سوقًا، والفضيلة تصبح عائقًا أمام “الكفاءة” الاقتصادية او الاجتماعية والسياسية …الخ. المشروع الأرسطي لتشكيل مواطنين فاضلين يبدو، في هذا السياق، كنوع من الطوباوية الساذجة، بفعل التتفيه الممنهج .

العبودية المعاصرة: من الأجساد إلى العقول

إشكالية العبيد في نص أرسطو

أحد أكثر جوانب فلسفة أرسطو إثارة للجدل هو دفاعه عن العبودية. أرسطو يرى أن بعض البشر “عبيد بالطبيعة” – أي أنهم يفتقرون للقدرة العقلية الكاملة ويحتاجون لمن يحكمهم. هذا الموقف، الذي يعكس تحيزات عصره، تعرض لنقد شديد مبرر وغير مبرر عبر التاريخ.

لكن إذا ما أردنا قراءة عابرة للزمن، تتجاوز الإدانة الأخلاقية البديهية لتطرح سؤالاً معرفياً أعمق، يمكننا أن نسأل: ألا توجد أشكال جديدة من العبودية في عصرنا؟

العبودية الذهنية في العصر الرقمي

العبيد اليوم ليسوا أولئك الذين تُستعبد أجسادهم (رغم أن هذا لا يزال موجوداً في أشكال مختلفة)، بل أولئك الذين تُستعبد عقولهم. الجماهير التي تُساق عبر الإعلام، وتُشكل آراؤها عبر الدعاية، وتُستثار انفعالاتها عبر الشعوبية، وتُبرمج سلوكياتها عبر خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي – هؤلاء هم عبيد العصر الحديث.

لا بل ان هذه العبودية أكثر فعالية من القديمة لأنها لا تظهر كقيود خارجية “وقحة”، بل تعمل من الداخل. العبد الحديث لا يشعر بعبوديته، بل يظن نفسه حرًا لأنه يختار – دون أن يدرك أن خياراته ضمن قائمة معدودة سلفًا. يختار بين منتجات السوق، بين مرشحين تم فلترتهم مسبقًا، بين آراء يتم تشكيلها عبر غرف الصدى الإعلامية.

“التحكم بالعقول” كأداة للهيمنة

ما نشهده اليوم هو تطور تقنيات الهيمنة من السيطرة على الأجساد إلى السيطرة على الوعي. الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي سماها “الهيمنة الثقافية” – القدرة على جعل الناس يتبنون أيديولوجيا الطبقة الحاكمة كأنها بديهية ومنطقية وفطرية.

صناعة الرأي العام، هندسة الموافقة، السيطرة على السردية، تشكيل الوعي الجماهيري – كل هذه مصطلحات تصف الآليات التي تحول البشر إلى “عبيد بدون سلاسل”. إنهم يصوتون، لكنهم لا يقررون. يختارون، لكنهم لا يحكمون. يشاركون، لكنهم لا يؤثرون.

في هذا السياق، يكتسب المشروع الأرسطي أهمية قصوى: التربية السياسية، التفكير النقدي، المشاركة الفعلية في الشأن العام، تشكيل مواطنين واعين وفاعلين – كل هذا يصبح مشروع تحرر من العبودية الذهنية المعاصرة.

المرأة في الفلسفة الأرسطية: من الإقصاء إلى المشاركة

الإشكالية التاريخية

كما دافع أرسطو عن العبودية، فقد استبعد النساء من المواطنة الكاملة. رأى أن المرأة “ناقصة” من الناحية العقلية والأخلاقية، وأن دورها يقتصر على المجال الخاص (الأسرة) دون المجال العام (السياسة). هذا الموقف، رغم أنه كان سائداً في عصره، يمثل أحد أكبر نقاط الانتقاد في فلسفته السياسية.

الصيرورة التاريخية لتحرر المرأة

لكن التاريخ سار وشكّل نفسه عكس تصور أرسطو. النساء، عبر قرون من النضال، أخذن دورهن في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. من حركات الاقتراع النسائي في القرن التاسع عشر، إلى الحركات النسوية في القرن العشرين، إلى الحضور المتزايد للمرأة في مواقع القرار اليوم – نشهد صيرورة تقدمية (وإن كانت غير مكتملة) لتحقيق المساواة.

هذه الصيرورة ربما تكشف ثغرة في الفلسفة الأرسطية في نقطة جوهرية: الطبيعة البشرية ليست ثابتة كما تصورها أرسطو، بل هي في حالة تطور مستمر بآليات مختلفة. ما بدا “طبيعياً” في عصر ما (استبعاد المرأة من السياسة) يتضح لاحقاً أنه كان مجرد تحيّز ثقافي وبنية اجتماعية قابلة للتغيير.

ما وراء الدمج: نحو إعادة تعريف السياسة

لكن دمج المرأة في المجال السياسي لا يكفي إذا بقي هذا المجال نفسه مُعرّفاً بمعايير ذكورية. النسويات المعاصرات، مثل كارول باتمان، يطرحن أن المشكلة أعمق من مجرد الإقصاء – المشكلة هي في بنية الفكر السياسي الغربي نفسه، الذي يقوم على ثنائية العام/الخاص، السياسي/المنزلي، العقل/الجسد، والتي ترتبط بثنائية الذكر/الأنثى.

إعادة قراءة أرسطو اليوم تتطلب ليس فقط تصحيح خطئه بشأن المرأة، أو ربما التبحر أكثر في ماهية طرحه حينها، بل إعادة تفكير في المجال السياسي نفسه – ما هو سياسي؟ هل الرعاية سياسية؟ هل الإنجاب سياسي؟ هل العلاقات العاطفية والأسرية خارج السياسة؟ الإجابة النسوية هي: كل ما هو شخصي هو سياسي، وبالتالي فإن فصل أرسطو بين (المدينة) هو فصل إشكالي يعكس هيمنة ذكورية ما زالت حتى الآن طاغية بأقنعة او مواد تجميلية (إشكالية تتطلب بحثًا وتأويلًا أعمق).

الصيرورة المفاهيمية: من أرسطو إلى المعاصرة

التطور كقانون للفكر

ما يكشفه تاريخ الفلسفة السياسية هو أن المفاهيم ليست ثابتة، بل هي في صيرورة مستمرة. “الإنسان حيوان سياسي” – هذه الجملة لا تعني اليوم ما عنته في القرن الرابع قبل الميلاد. تغيير معنى “الإنسان” (بدمج المرأة، وإلغاء العبودية، والاعتراف بالمساواة)، وتغير معنى “السياسي”، وحتى معنى “الحيوان” تطور مع تطور علم الأحياء وفلسفة الطبيعة.

حدود التفسير النصي

هذا يطرح سؤالاً منهجياً جوهرياً: كيف نقرأ نصوصاً قديمة؟ هل نحاول أن نفهمها في سياقها التاريخي فقط، أم نعيد تأويلها في ضوء معارفنا المعاصرة؟ هل نحاكم أرسطو بمعايير عصره أم بمعايير عصرنا؟

الجواب، على الأرجح، يكمن في القراءة الجدلية: نفهم السياق التاريخي (أرسطو كان ابن عصره)، لكننا نطرح الأسئلة المعاصرة (ما الذي لا يزال حياً في فكره؟ وما الذي يجب تجاوزه او تفسيره على نحو معاصر؟). نقدر الإنجاز الفكري (رؤية عميقة للطبيعة الاجتماعية للإنسان).

المفاهيم غير القابلة للشرح الكامل

”أي محاولة لمعالجة شاملة لمفهوم “الإنسان حيوان سياسي” ستصطدم بحدود النص المكتوب. هناك طبقات من المعاني، وشبكات من المفاهيم المترابطة، وسياقات تاريخية معقدة، لا يمكن احتواؤها في مقال واحد“.

لكن هذا القصور ليس عيباً، بل هو طبيعة الفكر الفلسفي نفسه – إنه حوار مفتوح، لا نظام مغلق. كل قراءة لأرسطو هي قراءة جزئية ومحدودة، لكنها في نفس الوقت ضرورية ومشروعة. ما يهم ليس الشمولية المستحيلة، بل الدقة في طرح الإشكاليات والأمانة في معالجتها.

نحو قراءة نقدية بناءة

استلهام الجوهر دون التقديس

القراءة النقدية لأرسطو اليوم يجب أن توازن بين الرفض والقبول. نرفض التحيزات التاريخية (العبودية، إقصاء المرأة، محدودية المدينة-الدولة)، لكننا نستلهم الرؤية الجوهرية: الإنسان كائن يتحقق من خلال الحياة المشتركة، والسياسة كمشروع أخلاقي تربوي، والفضيلة كصناعة اجتماعية ونحن المسؤولين عن الانطلاق من الجذر التاريخي لصناعة الوعي الحاضر والمستقبلي.

إعادة تأسيس السياسة كمشروع أخلاقي

في مواجهة الميكيافيلية المعاصرة بأشكالها المختلفة – من الواقعية السياسية، إلى النيوليبرالية، إلى الشعبوية – نحتاج إلى إعادة الاعتبار للبعد الأخلاقي للسياسة. هذا لا يعني العودة الحرفية لأرسطو – لأنها بنت زمانها، بل يعني إعادة طرح السؤال الذي طرحه: ما هي الحياة الخيرة؟ وكيف يمكن للمجتمع السياسي أن يساعد أفراده على تحقيقها؟

مقاومة العبودية الذهنية

إذا كان التحدي الأكبر اليوم هو “التحكم بالعقول”، فإن المشروع الأرسطي للتربية السياسية يكتسب راهنية قصوى. نحتاج إلى تعليم نقدي يحرر العقول، إلى إعلام مستقل يكشف الزيف، إلى فضاءات عامة حقيقية للنقاش الحر، إلى مؤسسات سياسية تشجع المشاركة الفعلية لا مجرد المشاركة الشكلية.

المواطن الواعي، الناقد، الفاعل – هذا هو الهدف الذي لا يزال حياً من المشروع الأرسطي. والسياسة، بهذا المعنى، هي مشروع تحرري بامتياز: تحرير الإنسان من عبوديته الذاتية (الجهل، الانفعالات الجامحة، الأنانية)، ومن عبوديته الاجتماعية (الهيمنة، الدعاية، التلاعب).

توسيع المواطنة

أما بخصوص المرأة، فالصيرورة التاريخية تُعلمنا درساً مهماً: المواطنة ليست معطى ثابتاً، بل هي إنجاز تاريخي قابل للتوسع. إذا استطعنا تجاوز إقصاء المرأة، يمكننا أن نتجاوز أشكالاً أخرى من الإقصاء: الفقراء، المهاجرون، الأقليات، الأجيال القادمة – كلهم لهم حق في أن يكونوا جزءاً من “الحيوان السياسي” الذي يشكل مصيره المشترك.

السياسة كمقاومة وبناء

في الخاتمة “الإنسان حيوان سياسي” – بعد أكثر من ألفي عام، لا تزال هذه العبارة تحمل إمكانيات تحررية هائلة، شرط أن نقرأها قراءة نقدية لا قراءة تقديسية.

أرسطو علّمنا أن الإنسان ليس كائناً مسبق الصنع، بل مادة خام تتشكل في وعبر المجتمع السياسي. هذا الدرس يبقى حيًا: نحن لسنا محكومين بـ”طبيعة بشرية” ثابتة، بل نملك القدرة على تشكيل أنفسنا وتشكيل مجتمعاتنا. السياسة، بهذا المعنى، هي مشروع صناعة الإنسان.

لكن التاريخ أيضاً علمنا كيف يمكن تحريف هذا المشروع. من ميكيافيلي إلى النيوليبرالية، رأينا كيف تم إفراغ السياسة من بعدها الأخلاقي، وتحويلها إلى مجرد تقنية للهيمنة. الخير صار عبئاً، والفضيلة صارت عائقاً، والمواطن صار مستهلكاً.

في مواجهة هذا الانحراف، نحتاج إلى إعادة تأسيس السياسة كمشروع تحرري – تحرير من العبودية الذهنية التي تمارس بأرحية، ذلك بغياب تشكيل المفهوم السياسي الجمعي لمقاومتها.