
ابن خلدون والعصبية: الثورة المعرفية المنسية
[علي فضة]
المقال الثاني من سلسلة “الطريق الى التحليل السياسي المعرفي”
مدخل: الرجل الذي سبق زمانه بقرون
تخيّل معك كتاباً كُتب في تونس أو الجزائر سنة 1377 ميلادية – القرن الرابع عشر. كاتبه قاضٍ ووزير ومؤرّخ عربي مسلم اسمه عبد الرحمن بن خلدون. تفتح هذا الكتاب، تقرأ، فتجد: نظرية في قيام الدول وسقوطها – قبل ميكيافيلي بـ150 سنة، تحليلاً للعلاقة بين الاقتصاد والسياسة – قبل آدم سميث بـ400 سنة, علم اجتماع سياسي متكامل – قبل أوغست كونت بـ450 سنة, منهجاً تاريخياً نقديًا – قبل المدرسة التاريخية الألمانية بـ500 سنة، نظرية في الدورات الاقتصادية – قبل كينز بـ550 سنة, هل هذا معقول؟ رجل واحد، في القرن الرابع عشر، في مغارة بصحراء الجزائر، يكتب ما لم تصل إليه أوروبا إلا بعد قرون؟ هذا ليس انحيازًا ايديولوجي إنها حقيقة مستمرة …
نعم. هذا هو ابن خلدون.
والأدهى: رغم عبقريته، فهو شبه منسي في عالمنا العربي. طلاب العلوم السياسية في جامعاتنا يدرسون ميكيافيلي وهوبز ومونتسكيو، لكن قليلون منهم قرأوا “المقدمة” كاملة. “المزار القريب لا يشفي”
لماذا؟
هذا سؤال سنعود إليه. لكن أولاً، دعونا نفهم: من هو هذا الرجل؟ وماذا قال؟ ولماذا هو أهم مفكر سياسي أنجبته الحضارة الإسلامية؟
ابن خلدون: حياة في قلب العاصفة
المحطات الأساسية:
-تونس (1332-1352): الولادة والتكوين. أسرة عريقة من إشبيلية، هاجرت بعد السقوط. تلقى تعليماً رفيع المستوى في العلوم الإسلامية واللغة والفلسفة.
-فاس (1354-1362): دخل بلاط السلطان أبي عنان المريني. عُيّن كاتب سر (وزيراً). ذاق طعم السلطة، وطعم خطرها. سُجن لأول مرة بسبب مكائد القصر.
-غرناطة (1362-1365): لجأ إلى الأندلس. عمل مستشاراً لسلطان بني الأحمر. مهمات دبلوماسية بين المسلمين والمسيحيين. رأى بعينه كيف تتآكل آخر معاقل الإسلام في أوروبا.
-بجاية (1365): عُيّن حاجباً (رئيس وزراء) لسلطان بجاية. السلطة الكاملة، ثم الفقدان الكامل. حروب، انقلابات، خيانات.
-العزلة (1375-1378): بعد عقدين من التقلّب بين السجن والوزارة، بين الصعود والسقوط، قرّر الاعتزال. ذهب إلى قلعة ابن سلامة في صحراء الجزائر. هناك، في أربع سنوات، كتب معظم المقدمة.
-القاهرة (1382-1406): المرحلة الأخيرة. قاضي القضاة المالكيين. صراعات قضائية، عُزل وأُعيد ست مرات. جمعه لقاء تاريخي مع تيمورلنك في دمشق (1401). محطات جوهرية في تاريخ الرجل.
-الموت (1406): مات في القاهرة، عن 74 سنة، بعد حياة من الصعود والهبوط، الخيانة والولاء، الأمل والخيبة.
لماذا هذه الحياة مهمة؟
لأن ابن خلدون لم ينظّر من فراغ. عاش السياسة، ذاق السلطة، رأى الخيانات، عرف كيف تقوم الدول وتسقط لأنه كان جزءًا من هذه القصة. نظريته عن العصبية، عن الدورة التاريخية، عن صراع البدو والحضر – كلها انعكاس لتجربته الشخصية. لم يكن مجرد مفكر، بل محلل-ممارس.
هذا ما يعطي تحليله عمقًا نادرًا. إنه يتحدث عما عاشه. المشروع الخلدوني: علم جديد للعمران البشري
من الأندلس إلى مصر: رحلة الاضطراب
عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) لم يكن أكاديميًا في برج عاجي. كان رجل سياسة فعلي – عاش السلطة من الداخل، ودفع ثمن ذلك غاليًا. إنه ابن البراكسيس .
الثورة المنهجية: لماذا “المقدمة”؟
ابن خلدون بدأ كمؤرخ تقليدي. أراد أن يكتب تاريخاً شاملاً للعرب والبربر. لكن توقف, قد حوّله هذا في عصره الى رجل استثنائي، حينما سأل نفسه: “لماذا كل كتب التاريخ مليئة بالأخطاء والخرافات والأكاذيب؟” المؤرخون ينقلون الروايات دون تمحيص . يكتبون “أن ملكاً حكم ألف سنة، أو أن جيشاً من مليون جندي عبر صحراء! سذاجة وجهل” انها سردية ليس تأريخ.
لماذا؟ لأنهم لا يملكون معيارًا للتمييز بين الممكن والمستحيل أو مؤرخي بلاط ربما لمصالح فكرية محددة ايضا, اضافة الى انهم لا يفهمون قوانين العمران البشري؟ – كيف تعمل المجتمعات؟ كيف تقوم الدول؟ ما هي حدود الممكن والغير ممكن.؟
الحل: قبل كتابة التاريخ، علينا أن نبني علمًا جديدًا – علم يُفَهِم طبيعة الاجتماع البشري وقوانينه. هذا العلم سمّاه: “علم العمران البشري” أو “علم الاجتماع” (Sociology – قبل أن يخترع أوغست كونت الكلمة بـ450 سنة!).
أما “المقدمة” ليست مقدمة فقط، بل العلم الجديد نفسه. كتاب مستقل، ثورة معرفية كاملة في وقت كان الشح المنهجي كلٌ في اختصاصه سائد.
ما هو علم العمران؟
يقول ابن خلدون في فصوله الأولى:
“هذا علم مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع – وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني – وذو مسائل، وهو بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال.”
دعونا نفكك هذا:
الموضوع: الاجتماع البشري – كيف يعيش الناس معًا، كيف يتنظمون، كيف يحكمون.؟ اسئلة نادرًا من تجرأ على تفكيكها …
-المسائل: القوانين والأنماط التي تحكم هذا الاجتماع.
المنهج: لا مجرد سرد الحوادث، بل البحث عن الأسباب العميقة هنا يتحول المنهج الى منهجية. ابن خلدون لا يسأل فقط: “ماذا حدث؟” بل: “لماذا حدث؟ وكيف كان ممكنًا؟ وهل يمكن أن يتكرر؟” هذا هو التحليل الحقيقي. ليس السرد الببغائي، أو التعليق الحدثي، بل الفهم منطلق الاجابات المعرفية المفيدة.
العصبية: المفهوم المحوري
ما هي العصبية؟
هذا أهم مفهوم عند ابن خلدون. وأكثره إساءة في الفهم.
العصبية ليست العنصرية أو القبلية الضيقة (كما يُفهم اليوم). بل هي: “النعرة والتناصر والالتحام الذي يكون بين أهل النسب الواحد.” ببساطة: التضامن الاجتماعي القوي بين جماعة، بحيث يدافع كل فرد عن الآخر كأنه عن نفسه.
هذا التضامن قد يقوم على:
القرابة الدموية (القبيلة), الأصل المشترك (العشيرة), المصلحة الموحّدة, العقيدة المشتركة (الدين أو الأيديولوجيا)
المهم: أن تكون الروابط قوية، عميقة، يمكن الاعتماد عليها في الأزمات.
لماذا العصبية ضرورية للملك؟
يقول ابن خلدون بوضوح صارخ:
“الملك والدولة لا يحصلان إلا بالعصبية.”, لماذا؟ لأن السلطة في أساسها قوة. والقوة لا تأتي من فرد واحد، بل من جماعة متضامنة.
تخيّل رجلاً يريد أن يحكم. يحتاج: جنوداً يقاتلون معه, أتباعًا يطيعونه, حلفاء يساندونه, من أين يأتي بهم؟, لا يكفي المال. المال يشتري المرتزقة، لكن المرتزقة يخونون عند أول خطر او لمن يدفع اكثر.
لا يكفي وجود القوانين. القوانين تحتاج من يفرضها.
ما يحتاجه: عصبية – جماعة ترتبط به برباط قوي، لا يتزعزع بسهولة. قبيلة، عشيرة، حركة أيديولوجية، أي شيء من هذا القبيل – المهم أن يكون الولاء عميقًا.
العصبية والبداوة
العصبية أقوى عند أهل البدو (البدو، الريف، الجبل، الأطراف) منها عند أهل الحضر (المدن).
لماذا؟
في البداوة: الحياة قاسية. البقاء يعتمد على التعاون, القبيلة هي كل شيء: الحماية، الأمن، الهوية, البساطة في العيش تقوي الروابط, الشجاعة والخشونة سائدة
في الحضر:
الحياة مرفهة. الفرد يمكنه الاستغناء عن الجماعة, السلطة (الدولة) توفر الأمن، فلا حاجة للعصبية, الترف يُضعف الهمم
الفردية تحل محل التضامن.
النتيجة: البدو أقوى عصبية، وبالتالي أقدر على القتال والاستيلاء على الحكم.
القانون الخلدوني الأول:
“أهل البداوة أقدر على التغلب ممن سواهم.”
كل التاريخ يثبت هذا: “العرب البدو” غزوا الإمبراطوريات الحضرية (فارس، بيزنطة). المغول البدو غزوا الصين والشرق الإسلامي. الأتراك البدو أسسوا الدولة العثمانية. القوة تأتي من الهامش، لا من المركز.
الدورة الخلدونية: قيام الدول وسقوطها
المراحل الخمس للدولة
ابن خلدون يرصد دورة حياة الدولة – كأنها كائن حي: ولادة، شباب، نضج، شيخوخة، موت.
المرحلة الأولى: الظفر والاستيلاء على الملك, جماعة ذات عصبية قوية (غالباً بدوية) تستولي على السلطة. القائد يشارك أتباعه في كل شيء: المجد، الغنيمة، المخاطر. العصبية في أوجها.
صفات هذه المرحلة: الشجاعة والإقدام, البساطة في العيش, العدل (نسبياً) لأن الحاكم لا يزال قويًا بعصبيته لا بالقهر
التضامن بين الحاكم والمحكومين.
مثال: الدولة الإسلامية الأولى في عهد الخلفاء الراشدين. الدولة الأموية في بدايتها. الدولة العثمانية في عهد سلاطينها الأوائل.
المرحلة الثانية: الاستبداد على قومه وإنفراده دونهم بالملك
الحاكم يدرك أن أصحاب العصبية (قبيلته، عشيرته) يشاركونه السلطة. يريد أن ينفرد بها. فيبدأ: يُقصي رفاقه الأوائل, يستبد بالقرار, يحيط نفسه بحاشية من الموالين والغرباء, يبني جيشاً من المرتزقة والموالي (ليس من العصبية الأصلية)
صفات هذه المرحلة:
بداية الاستبداد, ضعف العصبية الأصلية
بناء جهاز الدولة والبيروقراطية
مثال: الأمويون بعد معاوية. العباسيون مع أبي جعفر المنصور. العثمانيون مع سليمان القانوني.
المرحلة الثالثة: الفراغ والدعة والاستكثار من ثمرات الملك
الدولة استقرت. الأعداء انهزموا. الثروات تتدفق. الحاكم يستمتع بالملك.
صفات هذه المرحلة:
الترف والبذخ, بناء القصور والمدن, الازدهار الاقتصادي والثقافي, نسيان الأصول البدوية, هذه هي أزهى مراحل الدولة ظاهرياً. لكنها بداية الانحدار.
مثال: الدولة العباسية في عهد هارون الرشيد. الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر. الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني.
المرحلة الرابعة: القنوع والمسالمة
الحاكم يكتفي بما لديه. لا طموح للتوسع. يسالم الأعداء. الهمّة تضعف.
صفات هذه المرحلة:
ضعف العصبية تماماً, الاعتماد على المرتزقة والموالي, تسرّب الفساد للإدارة, ضعف الجيش.
مثال: العباسيون في القرن الثالث الهجري. المماليك في مصر. العثمانيون في القرن الثامن عشر.
المرحلة الخامسة: الإسراف والتبذير
المرحلة الأخيرة: الانهيار.
الحاكم يُسرف في إنفاق أموال الدولة على ملذاته. يُثقل الرعية بالضرائب. الفساد مستشرٍ. الجيش ضعيف. الإدارة عاجزة.
صفات هذه المرحلة:
الظلم والقهر, الفقر والبؤس, انتشار الفتن الداخلية والنزعات الفردية او الجماعية, ضعف أمام الأعداء الخارجيين
النهاية: تأتي جماعة جديدة ذات عصبية قوية (من البدو أو الأطراف)، وتسقط الدولة الهرمة. الدورة تعيد نفسها.
مثال: سقوط الدولة العباسية أمام المغول (1258). سقوط المماليك أمام العثمانيين (1517). سقوط الأندلس أمام الإسبان (1492).
عمر الدولة: نظرية الأجيال الثلاثة
ابن خلدون يحدد عمر الدولة: ثلاثة أجيال، بمعدل 40 سنة للجيل = 120 سنة.
الجيل الأول (المؤسسون): عاشوا البداوة, يحملون العصبية والشجاعة, يؤسسون الدولة
الجيل الثاني (الأبناء):, نشأوا بين البداوة والحضارة, يحملون بقايا العصبية, يحافظون على الدولة
الجيل الثالث (الأحفاد): نشأوا في الترف الكامل, فقدوا العصبية والخشونة, يفقدون الدولة بإكتمال هذا التصور.
القانون الخلدوني:
“الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع.”
لا إصلاح ممكن. الدولة الهرمة ستموت حتمًا. فقط دولة جديدة ذات عصبية جديدة يمكن أن تحل محلها.
الاقتصاد والسياسة: الربط العبقري, الضرائب والعمران, ابن خلدون لم يكتفِ بالتحليل السياسي. ربط السياسة بالاقتصاد بطريقة سابقة لزمانها.
نظريته في الضرائب:
في بداية الدولة:, الضرائب قليلة, الحصيلة كبيرة (لأن الناس يعملون بنشاط), العمران يزدهر
في نهاية الدولة:
الضرائب كثيرة (بسبب إسراف الحكام), الحصيلة قليلة (لأن الناس يتوقفون عن العمل), العمران ينهار
القانون الخلدوني الاقتصادي:
“كثرة الوظائف والضرائب في آخر الدولة نقصٌ في حاصلها وقلتها في أولها كثرةٌ في حاصلها.”
بكلمات أبسط: الضرائب العالية تقتل النشاط الاقتصادي.
هذه الفكرة – التي ستُسمى لاحقًا “منحنى لافر” في القرن العشرين – صاغها ابن خلدون بوضوح في القرن الرابع عشر!
العمران والثروة
ابن خلدون يفهم أن الثروة لا تأتي من المعادن النفيسة، بل من العمل والإنتاج.
الدولة التي تشجع الزراعة والصناعة والتجارة – تزدهر. الدولة التي تُثقل الناس بالضرائب والقيود – تنهار.
الحلقة المفرغة:
الدولة تُسرف في الإنفاق, تزيد الضرائب, الناس يتوقفون عن العمل (لماذا أتعب والدولة ستأخذ كل شيء؟)
الإنتاج ينخفض, الحصيلة الضريبية تنخفض, الدولة تزيد الضرائب أكثر…, انه انهيار
هذا تحليل اقتصادي سياسي متقدم جدًا – في القرن الرابع عشر!
العقل الخلدوني: منهج التحليل
- الواقعية الصارمة
ابن خلدون واقعي لا يرحم. لا أحلام، لا أوهام، لا أيديولوجيات., يصف السلطة كما هي: صراع على القوة. الأخلاق الجميلة والخطابات النبيلة؟ قشور. الأساس: العصبية والقوة.
هذا قبل ميكيافيلي بـ150 سنة! - الحتمية التاريخية
ابن خلدون يبحث عن القوانين – أنماط تتكرر. التاريخ ليس عشوائياً، بل له منطق.
كل دولة تمر بنفس المراحل. كل عصبية تضعف مع الترف. كل حضارة تنهار حين تفقد القوة.
هذا تحليل بنيوي – يبحث عن البنى العميقة وراء الأحداث. - التجريبية التاريخية
ابن خلدون لا ينظّر في فراغ. يستخدم الأمثلة التاريخية لإثبات نظرياته.
العرب والفرس. الدولة الأموية والعباسية. البربر في المغرب. كل مثال يؤكد القانون.
هذا منهج استقرائي – من الجزئي (الأمثلة) إلى الكلي (القانون). - النقد والتمحيص
ابن خلدون لا يثق في الروايات. يفحصها، يختبرها أمام قوانين العمران.
رواية تقول إن جيشاً من 500 ألف عبر الصحراء؟ مستحيل! الصحراء لا تحمل هذا العدد.
رواية تقول إن ملكاً حكم 300 سنة؟ سخيف! العمر البشري محدود.
هذا نقد تاريخي علمي – قبل المدرسة التاريخية النقدية بقرون!
تطبيقات معاصرة: ابن خلدون في عالمنا
الربيع العربي: الدورة الخلدونية تتكرر
دعونا نطبق التحليل الخلدوني على ما حدث في العالم العربي 2011:
الأنظمة القديمة:
وصلت المرحلة الخامسة (الإسراف والتبذير)
فقدت العصبية (جيوشها ضعيفة، شعبيتها منعدمة)
الظلم والفساد مستشري
انهيار محتوم
الثورات:
جاءت من “الهوامش” (الشباب، الفقراء، المهمشون)
عصبية جديدة (ولو ضعيفة) ضد عصبية معدومة
سقوط بعض الأنظمة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن, سوريا)
لكن ماذا حدث بعدها؟
معظم الثورات فشلت. لماذا؟ لأن (الثوار) لم يملكوا عصبية قوية كافية.
ابن خلدون يقول: لا يكفي إسقاط النظام. تحتاج عصبية بديلة قادرة على بناء دولة جديدة.
الشباب في الميادين كانوا حركة احتجاج، لا عصبية سياسية منظمة. فشلوا حتمًا.
من نجح؟
الجيش في مصر (عصبية قوية منظمة)
الإسلاميون لفترة (عصبية أيديولوجية)
القبائل والميليشيات (عصبية تقليدية)
التحليل الخلدوني يفسر لماذا فشل الربيع العربي. لم يكن خيانة فقط وتدخلات خارجية، بل غياب العصبية البديلة.
الدولة الإسلامية (داعش): العصبية الأيديولوجية
داعش – رغم وحشيتها – كانت نموذجًا خلدونيًا مثاليًا:
عصبية قوية: أيديولوجية دينية متطرفة
بداوة: جاءت من هوامش العراق وسوريا
خشونة وشجاعة: مقاتلون لا يخافون الموت
قوة عسكرية: هزمت جيوشًا نظامية
ابن خلدون كان سيتنبأ بصعودها. لكن كان أيضاً سيتنبأ بـسقوطها:
عصبيتها ضيقة جداً (فقط المتطرفون) عجزت عن بناء دولة حقيقية (إدارة، اقتصاد، خدمات), عادت العالم كله ضدها (لا يمكن لدولة أن تقوم وكل العالم يحاربها) الوحشية تُنفّر الناس حتى من أيديولوجيتها, السقوط كان محتومًا.
طالبان في أفغانستان: العودة الخلدونية
طالبان سقطت 2001. عادت 2021. كيف؟
التحليل الخلدوني:
عصبية قبلية-دينية قوية (قبائل البشتون + الأيديولوجيا الإسلامية), بداوة (جاءت من الجبال والأرياف), صبر استراتيجي (20 سنة من حرب العصابات)
الحكومة في كابل: فاقدة للعصبية (مجرد موظفين يعتمدون على أمريكا)
حين انسحبت أمريكا، انهارت الحكومة في أيام. لماذا؟ لأنها لم تكن دولة حقيقية، بل واجهة.
طالبان كانت دولة بلا اعتراف، والحكومة كانت اعتراف بلا دولة.
ابن خلدون كان سيفهم هذا فورًا.
الصين والغرب: صراع العصبيات الحضارية
نطبّق ابن خلدون على الصراع العالمي اليوم:
الغرب (أمريكا وأوروبا):
في مرحلة متأخرة من الدورة (ترف، فردية، ضعف التضامن)
فقدان العصبية: التشرذم السياسي، الاستقطاب، أزمة الهوية
قوة عسكرية لكن إرادة ضعيفة (لا أحد يريد الموت من أجل القيم الليبرالية)
الصين:
دولة في مرحلة صعود
عصبية قومية قوية (الهوية الصينية، الفخر القومي، الحزب الشيوعي كأداة تماسك) انضباط وتضحية (الفرد يُضحّي من أجل الجماعة) طموح إمبراطوري (استعادة المجد التاريخي)
ابن خلدون كان سيقول: العصبية مع الصين.
هذا لا يعني أن الصين ستنتصر حتمًا كمفهوم عام سائد (هناك عوامل أخرى وتعريفات اخرى للنصر والهزائم). لكن من حيث العصبية والإرادة، الصين أقوى.
الأنظمة العربية: بين الانهيار والترميم
معظم الأنظمة العربية اليوم في المرحلة الرابعة أو الخامسة:
فقدت العصبية الأصلية (القبيلة، الحزب، الأيديولوجيا), تعتمد على القمع الأمني والدعم الخارجي, فساد مستشرٍ, ظلم اجتماعي متزايد
السؤال الخلدوني: متى تسقط؟
الجواب: حين تظهر عصبية بديلة قوية كافية.
لكن أين هذه العصبية؟
الإسلاميون: محاصرون ومقموعون
الجيوش: جزء من النظام
القبائل: ضعيفة في المدن
الشباب: ليسوا عصبية منظمة
النتيجة: الأنظمة تستمر ليس لأنها قوية، بل لغياب البديل.
هذا ما يفسر استمرار الاستبداد رغم ضعفه – الفراغ السياسي.
نقد ابن خلدون: حدود النظرية
رغم عبقريته، ابن خلدون ليس معصومًا. هناك حدود ونواقص: - الحتمية المفرطة
ابن خلدون يجعل الدورة حتمية – كل دولة ستسقط حتماً بعد ثلاثة أجيال.
لكن التاريخ يثبت خلاف ذلك:
الإمبراطورية الرومانية استمرت أكثر من 1000 سنة
الإمبراطورية الصينية استمرت آلاف السنين (مع تغيير الأسر)
بعض الدول الأوروبية مستمرة منذ قرون
الخطأ: ابن خلدون عمّم من تجربة محدودة (الدول الإسلامية في المغرب والمشرق) على كل التاريخ. - إهمال العوامل الأخرى
ابن خلدون يركز على العصبية كعامل حاسم. لكن هناك عوامل أخرى لم تكن في عصره وليس هناك بدائل اسقاطية:
التكنولوجيا: دولة متقدمة تكنولوجيًا يمكنها الصمود رغم ضعف العصبية
المؤسسات: دول ببيروقراطية قوية تستمر رغم تغير الحكام
الجغرافيا: موقع استراتيجي أو موارد طبيعية تعطي استمرارية
التحالفات الدولية: دولة ضعيفة لكن محمية من قوة كبرى
ابن خلدون يهمل هذه العوامل أو يقلل من أهميتها او لم تكن بهذا الميكانيزم. - التحيز البدوي
ابن خلدون يمجّد البداوة ويحتقر الحضارة. البدو شجعان وأقوياء، أهل الحضر ضعفاء ومترفون.
لكن هذا مبالغ فيه:
الحضارة أنتجت علومًا، فنونًا، فلسفة، تكنولوجيا
القوة العسكرية الحديثة تعتمد على الصناعة والتنظيم، لا الخشونة البدوية
الترف ليس دائماً ضعفًا – يمكن أن يكون محفزًا للإبداع - إهمال دور الأفكار
ابن خلدون مادي في تحليله. يركز على العصبية (قوة مادية) ويهمل دور الأفكار والأيديولوجيا.
لكن التاريخ يُظهر أن الأفكار تصنع التاريخ أحيانًا او تلعب معه:
المسيحية غيّرت الإمبراطورية الرومانية
الإسلام وحّد العرب وبنى إمبراطورية
الشيوعية غيرت روسيا والصين
الليبرالية شكّلت الغرب الحديث
الأفكار ليست مجرد انعكاس للعصبية، بل قوة مستقلة. - غياب البعد الأخلاقي
ابن خلدون وصفي، لا معياري. يصف كيف تعمل السياسة، لكن لا يحكم عليها أخلاقيًا.
السؤال: هل ما هو كائن = ما ينبغي أن يكون؟
ابن خلدون يقول: القوة والعصبية تحسم الصراع. لكن أين العدل؟ أين الأخلاق؟ أين حقوق الإنسان؟
هذا نقص فلسفي. التحليل السياسي لا يجب أن يكون خاليا من الأخلاق تمامًا.
لماذا نُسي ابن خلدون؟ مأساة الإهمال؟
في العالم الإسلامي: الجهل بالكنز
ابن خلدون كُتب له الشهرة في حياته، لكن لم يُفهم. “المقدمة” كانت معروفة، لكن كـكتاب تاريخ، لا كعلم جديد.
بعد موته، نُسي تقريبًا لعدة قرون. لماذا؟ - تعقيد الفكرة:
المقدمة صعبة. تحتاج قارئاً متمرساً. معظم العلماء لم يفهموا ثوريتها. - غياب التقليد العلمي:
ابن خلدون أسس علماً جديداً، لكن لم يكن هناك من يكمل. لا مدرسة، لا تلاميذ، لا تراكم معرفي.
العلم لا ينمو بعبقري واحد، بل بـتقليد بحثي مستمر. هذا لم يحدث. - الجمود الفكري:
العالم الإسلامي دخل منذ القرن الخامس عشر في جمود فكري. التقليد على الابتكار. النقل على العقل.
ابن خلدون كان عقلانياً نقدياً في زمن بدأ يرفض العقل. - الاستعمار:
حين جاء الاستعمار الأوروبي، العرب والمسلمون كانوا في موقف دفاعي. مشغولون بمقاومة الاحتلال، لا بقراءة تراثهم الفكري.
النتيجة: ابن خلدون ظل كنزًا مدفونًا في ثقافته الأصلية.
في الغرب: الاكتشاف المتأخر
الغرب اكتشف ابن خلدون في القرن التاسع عشر. المستشرقون الأوروبيون هم من أعادوا الاعتبار له!
أبرزهم:
سيلفستر دي ساسي (فرنسي): أول من ترجم أجزاء من المقدمة (1806)
فرانز روزنثال (ألماني-أمريكي): ترجمة كاملة للإنجليزية (1958)
أرنولد توينبي (بريطاني): اعتبره أعظم مؤرخ في التاريخ
المفارقة المؤلمة:
الغرب اكتشف عبقرية ابن خلدون قبل أن يعيد العرب اكتشافه!
لماذا؟ لأن الغرب كان في ثورة علمية – يبحث عن أفكار جديدة، مناهج جديدة. وجد في ابن خلدون سلفًا لعلم الاجتماع.
العودة المتأخرة
في القرن العشرين، بدأ المفكرون العرب يعيدون قراءة ابن خلدون:
طه حسين (مصر): درسه وكتب عنه
علي عبد الواحد وافي (مصر): شرح المقدمة
ساطع الحصري (سوري-عراقي): استخدم أفكاره في القومية العربية
محمد عابد الجابري (مغربي): حلّل العقل السياسي الخلدوني
لكن لا يزال غائباً عن التعليم الأساسي. طالب علوم سياسية عربي قد يتخرج دون أن يقرأ “المقدمة” كاملة!
هذا عار معرفي.
ابن خلدون والتحليل السياسي اليوم: الدروس الحية - التحليل البنيوي: ابحث عن البنى العميقة
ابن خلدون لا يكتفي بوصف الأحداث. يبحث عن البنى والقوانين التي تفسرها.
الدرس للمحلل اليوم:
لا تكتفِ بقول “حدثت ثورة في البلد X”. اسأل:
ما هي البنى الاجتماعية (طبقات، قبائل، طوائف)؟
ما هي العصبيات (دينية، قومية، قبلية)؟
في أي مرحلة من الدورة تقع الدولة, والعوامل الجيوسياسية؟
ما هي العوامل الاقتصادية (ثروة، فقر، توزيع)؟
هذا تحليل، لا مجرد وصف سطحي. - الواقعية: لا تخدع نفسك بالخطابات
ابن خلدون يعلمنا: لا تصدق الخطابات الرسمية. كل حاكم يدعي العدل والحكمة والتقوى.
انظر إلى الواقع:
من يملك القوة؟
ما هي العصبيات الحقيقية؟
كيف يُحكم فعلاً (لا كيف يُزعم أنه يُحكم)؟
المحلل الجيد سقراطي-خلدوني: يفكك الخطابات، يكشف المصالح، يرى البنى خلف الكلمات. - التاريخية: ضع كل شيء في سياقه
ابن خلدون مؤرخ قبل أن يكون سياسيًا. يفهم أن كل حدث له جذور.
الدرس: حين تحلل أزمة سياسية، لا تبدأ من اليوم. عد للتاريخ:
كيف تشكلت الدولة؟ ما هي الانقسامات التاريخية؟ ما هي الصراعات القديمة التي تعود؟
بدون تاريخ، التحليل أعمى. - الشمولية: اربط السياسة بالاقتصاد والاجتماع
ابن خلدون لا يفصل. السياسة مرتبطة بالاقتصاد، والاقتصاد بالعمران، والعمران بالعصبية.
الدرس: لا تحلل السياسة بمعزل. كل شيء مترابط.
أزمة سياسية؟ انظر إلى الاقتصاد.
أزمة اقتصادية؟ انظر إلى السياسة.
صراع طائفي؟ انظر إلى التاريخ الاجتماعي.
التحليل الجيد شمولي. - التواضع المعرفي: القوانين ليست مطلقة
رغم حتميته أحياناً، ابن خلدون يعترف: التاريخ معقد. الاستثناءات موجودة.
الدرس: لا تتعامل مع نظرياتك كحقائق مطلقة. الواقع دائماً أغنى من النظرية.
ابن خلدون قدم أدوات تحليل، لا وصفات جاهزة. استخدمها بحكمة، لا بتعصب.
خاتمة: ابن خلدون الحي
ابن خلدون مات سنة 1406. لكن عقله لم يمت.
كل مرة يسقط نظام ويصعد آخر – نتذكر ابن خلدون.
كل مرة نرى الترف يُضعف دولة – نتذكر ابن خلدون.
كل مرة نرى عصبية جديدة تتشكل – نتذكر ابن خلدون.
المشكلة: معظم “المحللين” اليوم لم يقرأوا ابن خلدون. أو قرأوه قراءة عابرة، مدرسية، ميتة.
لو قرأه المحللون العرب بجدية، لفهموا:
لماذا فشل الربيع العربي
لماذا عادت طالبان
لماذا تستمر الأنظمة الضعيفة
كيف تتشكل الدول الجديدة
ابن خلدون ليس تراثاً ميتاً، بل أداة حية للتحليل.
في زمن نغرق فيه بالمعلومات ونفتقر للفهم، في زمن الضجيج الإعلامي والتحليل السطحي، في زمن المحللين-الببغاوات الذين يكررون ما تمليه عليهم الأجندات – نحن بأمس الحاجة لابن خلدون.
حاجة لعقله النقدي.
حاجة لواقعيته الصارمة.
حاجة لعمقه التاريخي.
حاجة لشموليته المنهجية.
ابن خلدون = المحلل السياسي الحقيقي.
وكل من يدعي التحليل السياسي اليوم دون أن يكون قرأ “المقدمة” ودرسها وفهمها – ليس محللاً، بل دجّال.
الدعوة: أعيدوا قراءة ابن خلدون
هذه ليست دعوة للحنين للماضي، بل دعوة لاستخدام أدواتنا المعرفية.
اقرأ “المقدمة” – كاملة، بتأنٍ، بتفكير نقدي.
لا تقرأها كـ”تراث” تُمجّده. اقرأها كـنظرية تختبرها.
أين أصاب ابن خلدون؟ أين أخطأ؟
ما الذي لا يزال صالحًا؟ ما الذي تجاوزه الزمن؟
كيف يمكن تطوير أفكاره؟ كيف يمكن نقدها؟
هذه هي القراءة الحية. لا التقديس، لا الإهمال، بل الحوار النقدي.
ابن خلدون يستحق هذا. وعقولنا تحتاج هذا.
“من لم يقرأ ابن خلدون، لم يفهم السياسة.”
— قول معاصر يجب أن يكون حقيقة منها نبدأ …- في المقال القادم
سننتقل من تونس والقاهرة إلى فلورنسا – إلى إيطاليا عصر النهضة.
سنلتقي نيكولو ميكيافيلي – الرجل الذي فصل السياسة عن الأخلاق، وأسس الواقعية السياسية الحديثة.
سنفهم كيف غيّر كتاب صغير اسمه “الأمير” قواعد اللعبة السياسية إلى الأبد.
ميكيافيلي جاء بعد ابن خلدون بـ150 سنة. لكنهما التقيا في شيء واحد: الشجاعة في قول الحقيقة، مهما كانت قاسية.
هذا ما سنستكشفه في المقال الثالث.
- في المقال القادم
مؤسس مركز كلمة للدراسات والبحوث الجيوسياسية